فتاة الليل والكاتبة - القصة حقيقية




فى يوم كان اقامة مهرجان فى القاهرة ... اقرأ ماذا حدث

صباح اليوم الأول للمؤتمر تم العثور على جثة الكاتبة الفاضلة «أ. د. المصري»، فوق دكة خشبية بحديقة كازينو النيل، وتم العثور بجوار الجثة على أوراق بخط يدها، وقلمها الذهبي المعروف، مما يدل على أن الموت فاجأها بينما كانت تكتب الورقة المزمع تقديمها في المؤتمر، وأمرت النيابة بالإفراج عن فتاة الليل التي رآها بعض شهود العيان جالسة إلى جوار الفقيدة الفاضلة فوق الدكة الخشبية.

(١) فتاة الليل والكاتبة الكبيرة

كانت الكاتبة الفاضلة «أ. د. المصري» تقضي السَّاعات جالسة فوق هذه الدِّكة، تحاول أن تقتل الوقت بالكتابة، تحملق في الأوراق طويلًا، ثم ترفع رأسها وتحملق في الظلمة، وفي تلك الليلة من شهر أكتوبر كان الهواء البارد قادمًا من الشمال، ينذر برياح مُتربِّصة على الأبواب، وحرب موشكة على الهبوب.

الجو كان مُلبَّدًا بسحابة سوداء تزيد من الظُّلمة، وانقباض القلب، والتَّوجُّس من حدوث جريمة أو أي شيء آخر يزيد الرُّعب، وقعقعة الهواء تمتزج بقعقعة الميكروفونات المثبتة فوق الجوامع والمآذن، تنطلق منها الأصوات كالمفرقعات أو الرَّصاصات من فوهات المدافع.

كانت الكاتبة الفاضلة جالسة في يدها القلم، يلمع غطاؤه الذهبي في الظُّلمة، تحوطها هالة من الرَّهبَة مثل كبار الأدباء، لا يظهر منها إلا الرَّأس الملفوف بحجاب، أبيض مثل هرم من الثلج، مطرقة قليلًا فوق أوراقها تكتب.

من قلب الظُّلمة تظهر فتاة صغيرة، تسير ببطء شديد وإعياء واضح، نحيفة الجسم ترتدي ثوبًا أسود ضيقًا مكشوف العنق حتى الشق العميق بين النهدين، تتوقف أحيانًا لتلتقط أنفاسها، وتستدير برأسها الصغير يحوطه شعر كثيف أسود، منكوش قليلًا، تتطلع إلى السماء تخاطب الرب بصوت غير مسموع يشبه التمتمة المكتومة.

تراقبها الكاتبة الفاضلة لحظة ثُمَّ تنكفئ فوق الورقة تكتب، وتمرُّ الفتاة دون أن تُلاحظها، ثم تنتبه إلى وجودها، فتعود إليها وتجلس على طرف الدكة بحيث تترك مسافة كبيرة بينها، ترفع الكاتبة «أ. د. المصري» عينيها نحوها بشيء من الفضول دون أن تقول شيئًا، الفتاة ترمقها بنوع من الاستطلاع الطفولي، تتأمل من بعيد حروفها فوق الورقة، تبتسم قليلًا ثم تقول …

الفتاة يبدو أنك منشغلة بالكتابة يا سيدتي.
الكاتبة (بصوت خشن) آسفة، أنا مشغولة جدًّا ولا أخاطب بنات الليل.
الفتاة (في حرج) عندك حق يا سيدتي أعتذر لك.

(تهم الفتاة بالنهوض لتغادر المكان، لكن الكاتبة الفاضلة تشعر بتأنيب الضمير أو شيء من الشفقة.)

الكاتبة يمكنك الجلوس إن شئت.
الفتاة سأستريح قليلًا ثم أواصل المشي.
الكاتبة أنا لا أملك هذه الدكة ويمكنك الجلوس كما تشائين.

(تعود الفتاة إلى الجلوس وهي تمسح حبات العرق عن وجهها بمنديل صغير أبيض، ترمقها الكاتبة الفاضلة بطرف عين، تتطلع الفتاة إلى السماء السوداء وتهمس مخاطبة الرب.)

الفتاة أنت شاهد على أنني لم أكن من بنات الليل.
الكاتبة كنت إذن فتاة شريفة؟
الفتاة (تبتسم) أشكرك على هذه الكلمة الرقيقة، وإن كانت عن الماضي وليس الحاضر، في حياتي كلها لم أسمع هذه الكلمة «شريفة»، يا لها من كلمة جميلة!

(الكاتبة تنصرف عنها إلى كتابة الورقة، ترمقها الفتاة طويلًا وهي تكتب، يبدو أن الكاتبة متعثرة قليلًا والقلم الذهبي لا يتحرك في يدها، وإن كان يلمع في الظلمة.)

الفتاة هل تسمحي لي أن أسألك سؤالًا صغيرًا يا سيدتي؟
الكاتبة ما هو هذا السؤال؟ (دون أن ترفع رأسها عن الورقة).
الفتاة هل أنت كاتبة يا سيدتي؟

(الكاتبة ترفع وجهها ناحيتها وترد بصوت ينم عن الضيق قليلًا.)

الكاتبة بالطبع! ألا تعرفين ذلك؟ ألم ترين صورتي في الصحف وفوق شاشة التليفزيون؟
الفتاة أعتذر لك يا سيدتي، ليس عندي تليفزيون ولا أستطيع شراء الصحف.
الكاتبة آه، هذا مفهوم بالنسبة لك.
الفتاة لكني أحرم نفسي من الطعام أحيانًا لأشتري كتابًا.
الكاتبة لا بد أنك قرأت كتابًا من كتبي.
الفتاة هل لك كتب يا سيدتي؟
الكاتبة (بحماس) عندي الكثير من الكتب، وحصلت على جائزة الدولة ولقب كاتبة كبيرة.
الفتاة أعتذر لك عن جهلي يا سيدتي، لكن …
الكاتبة لكن ماذا؟
الفتاة لا بد أن عندك مكتبًا كبيرًا وبيتًا جميلًا فيه مكتب أيضًا.
الكاتبة بالطبع.

(تصمت الفتاة مترددة ثم تقول بشيء من الحرج …)

الفتاة أعتذر عن تطفلي يا سيدتي، كيف لكاتبة كبيرة مثلك أن تجلس في الليل فوق هذه الدكة وتكتب؟

(تطرق الكاتبة وتعود إلى الورقة في صمت، الفتاة أيضًا تصمت، وتشرد عيناها بعيدًا وهي تهمس لنفسها …)

الفتاة في الماضي البعيد وأنا طفلة كان لي مكتب صغير في غرفة نومي، وكانت لي مفكرة أكتب فيها.
الكاتبة (دون أن ترفع رأسها عن الورقة) كنت تكتبين؟!
الفتاة (شاردة دون أن تنظر إليها) في الماضي البعيد حين كنت فتاة شريفة.
الكاتبة آه، هذا مفهوم.

(تحرك الفتاة رأسها نحو الكاتبة وتتسع عيناها السوداوان ويملؤهما بريق خاطف مع السؤال …)

الفتاة ما هو المفهوم يا سيدتي؟
الكاتبة الفاضلة علاقة الكتابة بالشرف أتفهمين؟!
الفتاة أبذل كل جهدي لأفهم، وإن كنت لا أفهم، فأنا مرهقة من طول المشي، لا أستطيع أن أقول لك متى يبدأ المشي ومتى ينتهي، يبدو أنه بلا نهاية، خالد إلى الأبد مثل الرب.
الكاتبة (في ضيق) أستغفر الله العظيم، ألست مؤمنة وموحِّدة؟!
الفتاة معذرة يا سيدتي إن جرحت إحساسك، وقد تقولين عني غير مؤمنة كما قلت عني غير شريفة، ولكن … آه من هذه الكلمات الجارحة، إنها مؤلمة للجسم أكثر من الصفعات باليد أو القدم، آه من هذه الكلمات يا سيدتي، إنها كارثة …
الكاتبة ما هي الكارثة؟
الفتاة نعم يا سيدتي، الكلمات هي اللغة، وهي وسيلة الكتابة الوحيدة، ومع ذلك لا تسمح بها … نعم لا تسمح بها …

(تصمت الفتاة وهي شاردة، الكاتبة الكبيرة ترمقها باهتمام بعد أن كانت غير مبالية بها.)

الفتاة هل أضيع وقتك الثمين يا سيدتي بهذا الكلام الفارغ؟
الكاتبة لا … استمري … أنا أستمع إليك.
الفتاة أشكرك على حسن استماعك، كل ما أريد أن أقول: إن الكتابة … آه، هذه الكتابة أمرها عجيب، أرجوك صدقيني، إنها ليست شيئًا واضحًا يمكن كتابته على الورق، كانت هي هكذا دائمًا منذ طفولتي، ولم يكن هناك شيء يؤنسني في وحدتي إلا هي، أنا أحبها يا سيدتي لأنها تواسيني بطريقتها الخاصة، وأنا بحاجة إليها وأنا في الليل وحدي، والريح تعوي كالذئاب، وهذه الأصوات المفرقعات من فوهات الميكروفونات، ولا شيء لا شيء، يبعث على الراحة، وأنا أمشي وأمشي حتى أشعر بالإعياء، فأستريح فوق أي دكة في الطريق، وأقول لنفسي كم أنا فتاة محظوظة، لأنني أستطيع الجلوس في النهاية، وأفتح مفكرتي الصغيرة منذ الطفولة، وأكتشف حروفي المختفية بين السطور، والموسيقى الخافتة للكلمات.

(تتوقف الفتاة عن الحديث، يبدو عليها الإعياء الشديد، تمسح حبات العرق عن وجهها بالمنديل الأبيض الصغير، تلتقط أنفاسها.)

الكاتبة (باهتمام) لماذا توقفت؟ هذا حديث جميل يا ابنتي.
الفتاة (تبتسم) آه، هذه الكلمة «يا ابنتي» تثير حنيني إلى أبي.
الكاتبة كنت أتصور أنني بصفتي امرأة تثير حنينك إلى الأم.
الفتاة لم يكن لي أم يا سيدتي.
الكاتبة آه آسفة لهذا.

(تصمت الفتاة لحظة وهي تبتلع دموعها خلسة وتعدل من فتحة ثوبها لتخفي الشق بين نهديها، ثم تقول …)

الفتاة وأنت يا سيدتي، هل كان لك أم؟
الكاتبة (في أسى) نعم كان لي أم.
الفتاة وأب.
الكاتبة نعم بكل أسف.
الفتاة وهل أنت متزوجة؟
الكاتبة نعم بكل أسف.
الفتاة أعتذر لك إن كانت أسئلتي تؤلمك.
الكاتبة لا بالعكس، أشعر بشيء من الراحة في الحديث معك.
الفتاة وهل بيتك بعيد؟
الكاتبة لا، بيتي قريب، إنه هنالك في الناحية الأخرى من هذه الحديقة، وأنا أجلس هنا أطل عليه، انظري، إنه هناك، ذلك البيت الأبيض الكبير، إنه بيتي وأنا أنتظر ظهور الفجر لأعود إليه وأنام.
الفتاة (تتطلع نحو البيت في صمت طويل وشرود ثم تقول) آه، كم هو صعب الانتظار، حتى طلوع الفجر، أصعب شيء في حياتي هو الانتظار، رغم التعب أنا أفضل المشي على الانتظار؛ ولهذا أنا أكتب يا سيدتي، فالوقت يمضي بسرعة ونحن نكتب.
الكاتبة هذا صحيح تمامًا، لكن كيف أدركت كل هذا وأنت في مقتبل العمر؟!
الفتاة كنت مجبرة على ذلك، وقد بلغت العشرين من عمري منذ ثلاثة أيام، وأشعر كأنني في الستين أو السبعين، وكلما أمشي أحس كأن قدمي مقيدتان بسلسلة من الحديد.
الكاتبة وأبوك أين هو؟
الفتاة أبي تزوج امرأة شريفة تملك بيتًا، وهو بيت ضيق تجبره زوجته فيه على أن ينام على كليم فوق الأرض وهي تنام على السرير.
الكاتبة ألا يمكنك النوم في بيت أبيك بدلًا من هذه الدكة؟!
الفتاة لا يا سيدتي، أنا غير مسموح لي بزيارة أبي.
الكاتبة أليس لك أقارب أو قريبات، عمتك مثلًا أو خالتك؟ ألا ترين أنك لا تستطيعين الاستمرار هكذا؟
الفتاة لم لا يا سيدتي؟ ألست مثلي تقضين الليل فوق هذه الدكة؟
الكاتبة نعم، ولكني عند الفجر أعود إلى بيتي، وأتناول طعام العشاء، ثم أدخل إلى الفراش بلا صوت حتى لا أوقظ زوجي.
الفتاة أنت إنسانة حساسة، لكن ماذا يفعل زوجك في الليل، أهو يكتب مثلك؟

(الكاتبة الكبيرة تصمت شاردة بعينيها في الظلمة، تمسح حبات العرق عن وجهها بطرف حجابها الأبيض.)

الكاتبة لو كان يكتب ربما هان الأمر.
الفتاة أرجو المعذرة، لا تتكلمي إن كان ذلك يؤلمك.
الكاتبة بالعكس، ربما أشعر بشيء من الراحة لو حدثتك عن أشياء أخفيها عن نفسي.
الفتاة هذا يذكرني بطفولتي حين كنت أعترف لمفكرتي بأشياء لا أعترف بها لنفسي، وكنت أسمع من الناس أن أبي رجل غير شريف، وأود أن أقتله لأمسح العار بالدم، لولا أنه كان يضحي بشرفه من أجل إطعامي.
الكاتبة كلنا بشكل أو بآخر نتحمل الإهانة من أجل هدف نبيل.
الفتاة وماذا كان هدف حياتك؟ الكتابة؟!
الكاتبة آه، الكتابة، نعم يا ابنتي، لكن ما جدوى الكتابة إذا بقيت في الدرج دون أن ترى النور؟ وهذا أمر بالغ الصعوبة، أتفهمين ما أقول؟
الفتاة نعم أفهم يا سيدتي، وعندي قصة قصيرة لم يمكن لها أن ترى النور إلا بعد أن قدمت نفسي لأحد الرجال، كانت الأبواب مغلقة في وجهي وليس أمامي طريق آخر، أتقولين عني غير شريفة؟

(تصمت الكاتبة طويلًا وهي تمسح وجهها بطرف طرحتها البيضاء ثم تقول متلعثمة …)

الكاتبة لا … لا أقول عنك هذه الكلمة القاسية؛ لأن هدفك كان نبيلًا، وهو أن ترى كلماتك النور، هذا هو حال الدنيا يا ابنتي.
الفتاة أتقولين إن الدنيا نفسها غير شريفة؟
الكاتبة نعم لا، لا أعرف الحقيقة تمامًا؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم …

(يبدو الإعياء الشديد على الكاتبة الكبيرة، يسقط القلم من يدها والورقة على الأرض، تنظر في ساعة يدها بعينين غائمتين، أطراف أصابعها ترتعش، لا تكاد ترى أرقام الساعة.)

الكاتبة (في إعياء شديد) لم أعد أرى الأرقام كما كنت، انظري يا ابنتي كم تكون الساعة؟ لكن الظلمة لا تزال شديدة والفجر لم يطلع بعد لأعود إلى البيت.

(الفتاة تساعد الكاتبة في تجميع الورق الساقط على الأرض، وأنفاس الكاتبة اللاهثة تنم عن الإعياء القريب من الإغماء، تساعدها الفتاة على تمديد ساقيها المتورمتين فوق الدكة، تستعيد الكاتبة أنفاسها مستريحة قليلًا، ترمق الفتاة البيت الأبيض في الناحية الأخرى من الحديقة وتسأل في حرج …)

الفتاة بيتك قريب، هل آخذك إلى بيتك لتستريحي يا سيدتي؟
الكاتبة لا، لا أريد العودة حتى يطلع الفجر.
الفتاة (في حيرة) ألا يمكنك العودة قبل ذلك؟
الكاتبة يمكنني العودة في أي وقت، لكني أفضل البقاء هنا حتى يخلو البيت وينام زوجي، أتفهمين؟
الفتاة أبذل كل جهدي لأفهم يا سيدتي، وهذا يذكرني بطفولتي حين كنت أفضل عدم العودة إلى البيت حتى يخلو تمامًا ويغيب أبي في النوم، ولا بد أنك عرفت الحزن مثلي يا سيدتي.
الكاتبة الحزن؟ نعم، ربما هناك علاقة بين الحزن والكتابة، لكني قاومت الحزن حتى نجحت.
الفتاة أنت سعيدة إذن يا سيدتي.

(الكاتبة وهي تغمض عينيها كأنَّما تروح في الغيبوبة أو في النَّوم، وصوتها يهمس …)

الكاتبة الحمد لله على كل شيء، وسوف يعوضني في الآخرة عن ألم الدنيا، وأنا لم أضمر الشر لأحد حتى لهذه الفتاة اللعوب التي أكلت عقل زوجي بعد أن تجاوز السبعين، وكتب البيت باسمها الذي دفعت فيه مدخرات عمري، إنها في العشرين من عمرها مثلك، وكانت من بنات الليل، واليوم أصبحت تحمل لقب السيدة الفاضلة حرم الوزير.
الفتاة هل أستدعي لك طبيبًا يا سيدتي؟!
الكاتبة (في ذعر) لا لا لا أريد أن يراني أحد هنا.



(٢) النهاية

صباح اليوم التالي أذاعت الأنباء خبر وفاة الكاتبة الكبيرة «أ. د. المصري» حرم السيد الوزير لشئون النشر والطبع، وأقيم المأتم الكبير في المسجد الشهير في ميدان التحرير، حضره جميع الوزراء والسفراء وكبار رجال الدولة، الذين جلسوا في الصوان الفخم، بالنظارات السوداء فوق العيون، الربطات السود حول الأعناق، والحديث الخافت يجري بينهم حول آخر الأنباء، الحرب القادمة، أسعار البورصة والكتب المطبوعة في الأسواق.

على الدكة الخشبية في الليل كانت فتاة الليل، وكانت هي الوحيدة التي تبكي، لكن …


عاهرة - لست نادمة ... السيناريو الأصلى لقصة العاهرة

 


مشهد أول

(ينزاح الستار.) 

(خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تَعتلي المسرح.)

(صوت كمان حزين في الخلفية.)

(تصفيق.)

عاهرة! خائنة! فاسقة!

هي أسماء سميتمُوها، لا تعنيني في شيء، كلمات تُطلَق في الهواء لوضعِ الناس في قوالب جامِدة، لكن في واقع الأشياء فالأوصاف الجاهزة لا تصف إنسانًا ولا تُصنِّفه، لا يوجد أسود وأبيض فيما يخص البشر، فنفوس الناس تسبح في الطيف الرمادي طيلة الوقت، من السهل أن تُطلق الأحكام ثم تَرتكن إلى نفسك، لا يُكلِّف أحد نفسه لفهم دوافعك الخفية وأسبابك لفعل الشيء، لا يغوص معك عميقًا في ذاتك، ليفهم ما فعلت.

الشخص المُناسِب لا تحتاج وقتًا حتى تعرفه، وقد عرفته من الوهلة الأولى التي رأته فيها عيناي، في مثل عمري، أنيق وسيم، يرتدي ملابس سوداء بالكامل، خفق قلبي بقوة عندما تلاقَت عينانا في لحظة كخطف البرق، اضطربت في مجلسي وارتعش صوتي، زوجي وأطفالي لم يلحظُوا اضطرابي بينهم، سوى تعليق عابر من زوجي يَقترِح أنني أُعاني مشكلة في معدتي لتغيُّر لون وجهي، عندما عدتُ معهم للمنزل شعرت نفسي غريبة بينَهم، كأني أدخله للمرة الأولى، وخلال الأيام التالية ظلَّت صورة الرجل بالملابس السوداء تُعشِّش في ذِهني وتقفز أمام ناظري حتى أرهقتني، نظراته الحادة، وابتسامته الدافئة الناصِعة، تظهر جمالها ملابسة الداكنة، رأيت وجهه في وجه زوجي في ذات المساء، وهو يَعتليني على فراش الزوجية وأنا تحته شيء جامد، أنظر له في تقزُّز في انتظار أن يفرغ ما فيه، ولما ارتمى بجانبي هامدًا وارتفع صوت شخيرِه انسللت للحمام وبكيت.

لا أعرف لماذا، لكنَّني شعرت أنني ملوَّثة بالخطيئة حتى أخمص قدمي، ظلَّت تحت الماء لساعات أغسل عني درن لمساته.



مشهد ثانٍ

(ينزاح الستار.)

(خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تَعتلي المسرح.)

(موسيقى مُتصاعِدة في الخلفية.)

(تصفيق.)

نادمة!

لا ليس حقًّا … لا يَستشعِر الندم إلا من وعي أصل الخطأ، وأنا لم أُخطئ … هذا ما أشعر به في قلبي وما يُمليه عليَّ ضميري.

تعمَّدت أن أزور ذات المطعم بانتظام عسى أن أكحل عيني برؤيته مجددًا، كانت لحظات كالحلم عندما رأيتُه مجددًا، رأيتُ ابتسامتَه الدافئة تقترب مني، جلس قبالتي وتحدَّث بصوت رجولي عميق، كاد قلبي يَقفز له من بين ضلوعي، تحدَّثنا كصديقين قديمَين، وضحكت من أعماقي عدة مرات على دعاباته اللطيفة، حكى لي عنه، قصص حبِّه القديمة، والداه وأخوانه، عمله، آماله وطموحه ومخاوفه، قصصت له كل شيء عنِّي، استمع لي باهتمام، أخبرني أن كلَّ شيء سيكون بخير، مضى الوقت بسرعة دون أن أشعر به، كان مألوفًا، شعرت أنني أعرفُه منذ سنوات، وسرَتْ قشعريرة باردة في جسدي، عندما أمسك يدي ليُعينَني على النهوض لنغادر معًا، كان كل شيء كالحلم.

وفي ذات المساء دخلت معه منزله، توقَّفت أمامه للحظات أتأمَّل وجهه المُبتسِم وأتحسَّس ابتسامتَه بأطراف أصابعي، خلعت ملابسي ببطء مُتعمَّد حتى أطيل استمتاعي باللحظة قدر الإمكان، توقَّفت أمامه عارية وقربت حلمة صدري المكتنِز من وجهه فالتقمه بين شفتَيه بلا جهد. وريد صغير ينبض في جنون بين فخذيَّ، وتوتر شبقي محموم يندلع هناك ويُبلِّل المكان تعطشًا لولوج قضيبه. بركان هائج يعصف في جسدي، وتسري حممه في أوصالي، قلبي يخفق بلا هوادة، وأنفاسي مُتسارعة محمومة.

أفلَت صَدري واحتضنني فذبت بين ذراعيه كقطعة من الثلج، أشعر بملمس يديه القويتين تتحسَّس صدري وبطني وتتسلل إلى ما بين ساقي، أتحسَّس قضيبه المنتصب بيد ترتجف شبقًا، انسحبت منه للأسفل وجثوت على ركبتي أمامه، أغمضت عيني وأولجته في فمي، تذوقتُه كما يتذوق السكران كأسًا من النبيذ بعد طول انقطاع، حمَلني للسرير حملًا واعتلاني في هياج.

الموجودات تدور أمام عيني ثم تتركز، قلبي يَخفِق بعنف ودمائي كأنها تفور في أوردتي، أغمض عيني للحظات وأشهق من فرط اللذة، ثم أفتحهما في نصف إغماضة كالمنوِّمة لأرى وجهه الجميل على مقربة منِّي. أمسك مؤخرة رأسه وأجذبه إلى لأرشف رضاب شفتَيه، بقوة وتوحُّش، ثمَّ أطلق صرخات لا إرادية، وأغيب عن الوجود مجددًا، أشتمُّ عبق رائحته بشهيق طويل، خليط آسر من رائحة السجائر وعطر رجولي يدغدغ الحواس، وفي لحظة أنينه الطويل وارتجافة جسده عند وصوله إلى أقصى اللذة، ضغطتُه على جسدي بفخذي من خلف ظهره بلطف، ولففتُ ساعِدي حول ظهره لأحسَّ ارتعاشاته المتقطِّعة تتخلَّل جسدي، وأحسُّ سُخونة مائه في أحشائي.

لحظتها، شعرت بامتنان قوي ناحيته، حبٌّ قويٌّ جارفٌ، تمنَّيت لو أمنحه كل شيء، ليس جسدي فقط، في تلك اللحظة المتجمِّدة من الزمن.

عندما استلقى جواري بعدها واحتضنَني بين ذراعَيه وقبَّل شفتيَّ قبلة طويلة، لم أكن أكثر سعادة في حياتي كما كنتُ في تلك اللحظة، لم أحسَّ بالخطيئة وقتها، في الواقع كان شعوري على النقيض أنني في مكاني الطبيعي، وبرغم أنني مُتزوِّجة من عدة سنوات خلت، كانت تلك المرة الأولى في حياتى التي أصلَ فيها لتلك النشوة وأحس تفاصيل الجنس، أستشعرُ ذلك الخدرَ اللذيذ في كل كياني وأنا أُمرِّغ أنفي في صدره في تكاسُل لأحتفظ بعبق رائحته في ذاكرتي.

أحيانًا يأتيك الشخص المُناسِب في أكثر الأوقات سوءًا، أعرف هذا، لكنَّني أحببته بكل جوارحي بلا حيلة منِّي، وليس بعد هذا الحب ذنب، وجدتُ نفسي معه منذ البداية، وقعنا في حب بعضنا من المرة الأولى، حبًّا جارفًا مجنونًا بلا قيود.

كان كالغيث يهطل بغزارة، وأنا صحراء جدباء تَستجدي المطر.



مشهد ثالث

(ينزاح الستار.)

(خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تَعتلي المسرح.)

(صوت كنائسي خفيض في الخلفية.)

(تصفيق.)

خائنة!

ربما كنتُ أخون زوجًا، لكنَّني لا أخونُ نفسي.

لا أحد يفهم مأساة امرأة تَتنازعها نفسها بين رجلين، رجل ارتبطَت معه بشريعة الزواج والبيت والأطفال، ورجل ارتبطَت به بشريعة القلب.

امرأة تعيش أمام الناس كما ينبغي لها، زوجة وأم وجارة، ثم تهرُب بعيدًا عن أعين الناس لتعيش لحظات من المتعة المحرمة كفتاة مراهقة بين أحضان حبيبها.

العاشق لا يكذب قلبه، تحبُّ المرأة رجلها بكل حواسها، وتمنح نفسها له كتعبير عن هذا الحب، شيء مَحسوس تُترجم به حواسَّها ومشاعرها تجاهه، وبهذا المنطق فقد كنتُ أرى نفسي امرأة عاشقة، وليس زانية أو خائنة.

الزواج أحيانًا يسجن المرأة، يحكم تصرفها ويقرر مصيرها ويستلب شخصيتها وتفردها، يقتل روحها ويُفرغ ذاتها من كل شيء، كل النساء عبدات عدا قلوبهن، لا يُمكِن أن تسجن القلب بأيِّ شرعٍ أو قانونٍ، فهو لا يفهم الشرائع ويتمرَّد على القيود، يَصرُخ بما يُريد بدون مراعاة لشيء، ضجيج الحب هو صوت الله الهامس في دواخلنا، وبوصلة أرواحنا، والعشق قوة تُسيرنا وتغمر قلوبنا وتربطها بمن تأنس له.

لا حيلةَ لنا في قلوبنا، كما لا حيلة لنا في عشق من نُحبُّ.

ما أُسمِّيه بيتي هو سجني، وزواجي كان عبوديتي، أهيمُ بين الناس كالشبح، وعندما أرتدُّ إلى نفسي ليلًا لا أجدها، تلاشَت رُوحي وسط روتين حياتي، توقَّفَت حياتي في اللحظة التي أصبحت فيها شيئًا إضافيًّا مع متعلِّقات المنزل، ضاعت مني نفسي وأنا أُؤدِّي دوري كزوجة وفيَّة تهتمُّ ببيتها وزوجها، وأمٍّ تربي أطفالها على مكارم الأخلاق، فقدت طفولتي وفي غمرة بحثي عن ذاتي ظهر في حياتي كالمُنقِذ، انتشلني مِن نَفسي وأنا أصارع سكرات الغرق، ظهر في حياتي كهِبة من السماء، خفق له قلبي للمرة الأولى منذ سنوات ولم يَصمُت من بعدها، فاتبعتُه بلا تفكير.

قانون البشر يُخطئ ويصيب، وقانون القلب لا يكذب، وعلى غير المتوقَّع لم أكن أشعر بالعهر إلا بين يدَي زوجي، أُؤدِّي له حقَّه في جسدي كجثَّة هامِدة، حتى لا يبغضني الله وتَلعنُني ملائكته، أقوم من تحته وأشعر بالقذارة تتخلَّلني، وعندما أسترق بعض الساعات من دوامة يومي، وأزور حبيبي في مخدعة أنسى كل شيء وأعود امرأة جديدة، امرأة كاملة يتفجَّر قلبها حبًّا، بين ذراعَيه تَشتعِل كل جوارحي، وأحسُّ معانيَ جديدة للاشتهاء عندما تَلتحِم أجسادُنا في تواصُل جنسي حيواني محموم.

كانت أوقات حالِمة تلاشَت كما بدأت أول مرة، بعد عدة أشهر فقط أفقت من حلمي الطويل على نبأ تسرُّب خبر علاقتي المحرمة إلى زوجي، طلَّقني وأخذ منِّي أبنائي، كرهني أهلي، ولفَظني الناس، صديقاتي وجاراتي، أرى نظرات الرجال الوقحة المُقتحمة، وأسمع همهمات همس النساء عندما أمر بهنَّ في الشارع، أعادُوني إلى منزل أسرتي كعار يَستوجب الغسل، وفضيحة لا بدَّ من إخفائها، العاهِرة التي خانَت زوجَها ومرَّغَت رأس أهلها في التراب، كراهيتهم تضجُّ في أعينهم، وفي أصواتهم الزاعِقة، وسوء معاملتهم المستمر، أصبحت سجينة منزلي، لا أَخرُج، لا أقابل أحدًا، لا أُغادِر غرفتي، كالملعونة، مطرودة من رحمة الله وعطف الناس.

تتقلَّب الأيام وتمضي آسفة، مضى الأمس كما يَمضي اليوم كما سيَمضي الغد، أقضي الأيام على سريري أغرق في دموعي حتى أصابني المرض والهزال، أجاهد حتى لا أفقد صوابي، وأدعو الله كل مساء يأتيني أمره فأريح وأستريح.

وأُنقِّب في ذاكرتي متسائلة طيلة الوقت، هل أخطأت؟ هل كان ذنبي أنني قد أحببت؟ فما حيلتي في قلبي؟

أليسَ الحب قانون الله يقذفه في قلب من يشاء، بلا منطق أو أسباب، تتلاقى الأرواح وتتجاذب فلا نملك إلا الانصياع.

نادِمة!



لا لست نادمة، قد سحرني العشق، أسكرني الحب وتلوَّنت في نظري الحقائق وتشوَّهت مفاهيم الصواب والخطأ، أحببتُ رجلًا ليس لي، رجل أعاد لي نفسي وأزهرني من جديد بعد طول انطفاء، حياتي ليسَت سوى تلك اللحظات المسروقة التي عشتها بين ذراعَيه، نَرشف معًا لحظات حبِّنا المحرم، وما عَداها دور كنت أُؤدِّيه على مضض.

وإن استطاعُوا أن يَسجُنوا جسدي فليس لهم سلطان على قلبي، قلب يَشتاقك صباحًا، ويحنُّ لك ليلًا، ويظلُّ يرفل في حبِّك حتى مماتي، لا تُغادِر القلوب أعشاشها ولا يَنسى المحب من أحبه.

إذا كان خاطئًا ما أفعله، فقل لي بالله عليك لماذا لا أشعر بخطيئتي؟

(ينطفئ الضوء ويعم الظلام المسرح.)

(تصفيق.)

ينغلق الستار.